فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة، كما في الحجر. وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار، وثم الاستبعاد القسوة {مِن بَعْدِ ذلك} يعني إحياء القتيل، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب. {فَهِىَ كالحجارة} في قسوتها {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} منها، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها، أو أنها مثلها، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفاً على الحجارة، وإنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و{أَوْ} للتخيير، أو للترديد بمعنى: أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها.
{وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} تعليل للتفضيل، والمعنى: أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء، وتنفجر منه الأنهار، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقياداً لما أراد الله تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى. والتفجر التفتح بسعة وكثرة، والخشية مجاز عن الانقياد، وقرئ: {إِنَّ} على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية، ويهبط بالضم.
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد على ذلك، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده، والباقون بالتاء.

.تفسير الآية رقم (75):

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
{أَفَتَطْمَعُونَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أن يصدقوكم، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم. يعني اليهود. {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} طائفة من أسلافهم {يَسْمَعُونَ كلام الله} يعني التوراة. {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} كنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون. وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا. {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مفترون مبطلون، ومعنى الآية: أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك.

.تفسير الآية رقم (76):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ} يعني منافقيهم. {قَالُواْ ءَامَنَّا} بأنكم على الحق، وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ} أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق. {أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهاراً للتصلب في اليهودية، ومنعاً لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم، فينافقون الفريقين. فالاستفهام على الأول تقريع وعلى الثاني إنكار ونهي {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ} ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده كما يقال عند الله كذا، ويراد به أنه جاء في كتابه وحكمه، وقيل عند ذكر ربكم، أو بين يدي رسول ربكم. وقيل عند ربكم في القيامة وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إما من تمام كلام اللائمين وتقديره: أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم، أو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله: {أفتطعمون}، والمعنى: أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم.

.تفسير الآية رقم (77):

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} يعني هؤلاء المنافقين، أو اللائمين، أو كليهما، أو إياهم والمحرفين. {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ومن جملتهما إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان، وإخفاء ما فتح الله عليهم، وإظهار غيره، وتحريف الكلم عن مواضعه ومعانيه.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
{وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة، ويتحققوا ما فيها. أو التوراة {إِلاَّ أَمَانِيَّ} استثناء منقطع. والأماني: جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليداً من المحرفين أو مواعيد فارغة. سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله:
تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلِه ** تَمني دَاودَ الزبُورَ على رِسْلِ

وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون. {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع، وإن جزم به صاحبه: كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة.

.تفسير الآية رقم (79):

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
{فَوَيْلٌ} أي تحسر وهلك. ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه: أن فيها موضعاً يتبوأ فيه من جعل له الويل، ولعله سماه بذلك مجازاً. وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء. {لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} يعني المحرفين، ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة. {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد كقولك: كتبته بيميني {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} كي يحصلوا به عرضاً من أعراض الدنيا، فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم. {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني المحرف. {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يريد به الرشى.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} المس اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به، واللمس كالطلب له ولذلك يقال ألمسه فلا أجده. {إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} محصورة قليلة، روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوماً، وبعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا} خبراً أو وعد بما تزعمون. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال. والباقون بإدغامه {فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} جواب شرط مقدر أي: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال.
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن، على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى: بل أتقولون، على التقرير والتقريع.

.تفسير الآية رقم (81):

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
{بلى} إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زماناً مديداً ودهراً طويلاً على وجه أعم، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم، وتختص بجواب النفي {مَن كَسَبَ سَيّئَةً} قبيحة، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ، والكسب: استجلاب النفع. وتعليقه بالسيئة على طريق قوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به، ولذلك فسرها السلف بالكفر. وتحقيق ذلك: أن من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي، مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها، مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله} وقرأ نافع {خطيئاته}. وقرئ: {خطيته} و{خطياته} على القلب والإدغام فيهما. {فأولئك أصحاب النار} ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا {هُمْ فِيهَا خالدون} دائمون، أو لابثون لبثاً طويلاً. والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده، لترجى رحمته ويخشى عذابه، وعطف العمل على ايمان يدل على خروجه عن مسماه.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِي إِسْراءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة: {لا تعبدوا}. وعطف {قُولُواْ} عليه فيكون على إرادة القول. وقيل: تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله:
أَلا أَيّهذا الزاجري أَحضُرَ الوَغَى ** وأَنْ أشَهدَ اللذاتِ هَلْ أنتَ مُخلِدي

ويدل عليه قراءة: {ألا تعبدوا}، فيكون بدلاً عن الميثاق، أو معمولاً له بحذف الجار. وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال: وحلفناهم لا يعبدون. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به، والباقون بالياء لأنهم غيب {وبالوالدين إحسانا} تعلق بمضمر تقديره: وتحسنون، أو أحسنوا {وَذِي القربى واليتامى والمساكين} عطف على الوالدين. {واليتامى} جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل. ومسكين مفعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً، وسماه {حَسَنًا} للمبالغة. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب حسناً بفتحتين. وقرئ: {حَسَنًا} بضمتين وهو لغة أهل الحجاز، وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقة الالتفات، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب، أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن أسلم منهم {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة. وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضاً بالقتل والإجلاء عن الوطن. وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه، لاتصاله به نسباً أو ديناً، أو لأنه يوجبه قصاصاً. وقيل معناه: لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بالميثاق واعترفتم بلزومه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} توكيد كقولك. أقر فلان شاهداً على نفسه. وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً.

.تفسير الآية رقم (85):

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه. وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضوراً وباعتبار ما سيحكي عنهم غيباً. وقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم} إما حال والعامل فيها معنى الإشارة، أو بيان لهذه الجملة. وقيل: هؤلاء تأكيد، والخبر هو الجملة. وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر، وقرئ: {تَقْتُلُونَ} على التكثير. {تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان} حال من فاعل تخرجون، أو من مفعوله، أو كليهما. والتظاهر التعاون من الظهر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين. وقرئ بإظهارها، وتظهرون بمعنى تتظهرون {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم} روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. وقيل معناه: إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}. وقرأ حمزة {أسرى} وهو جمع أسير كجريح وجرحى، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى. وقيل هو أيضاً جمع أسير، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر {تفدوهم} {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متعلق بقوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم}، وما بينهما اعتراض، والضمير للشأن، أو مبهم ويفسره إخراجهم، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر. وإخراجهم بدل أو بيان {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} يعني الفداء.
{وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} يعني حرمة المقاتلة والإجلاء. {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} كقتل قريظة وسبيهم. وإجلاء بني النضير، وضرب الجزية على غيرهم. وأصل الخزي ذل يستحيا منه، ولذلك يستعمل في كل منهما. {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدّ العذاب} لأن عصيانهم أشد. {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} تأكيد للوعيد، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم. وقرأ عاصم في رواية المفضل، {تردون} على الخطاب لقوله: {مّنكُمْ}. وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وخلف ويعقوب {يعملون} على أن الضمير لمن.